مختصر منهاج القاصدين

                                                                     مختصر منهاج القاصدين
ربع العبادات

نبذة: يعتبر هذا الكتاب خلاصة وعصارة لكتاب التزكية الأول إحياء علوم الدين ااإمام الغزالي , يناقش الكتاب أعمال القلوب وما يتعلق بها من عادات وعبادات ومهلكات ومنجيات , كما يعتبر هذا الكتاب منهجًا تربويًا ميسرًا للسائرين إلى الله عز وجل .
 الربع الأول : ربع العبادات
كتاب العلم وفضله وما يتعلق به
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏9‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏11‏]‏ قال ابن عباس رضى الله عنهما‏:‏ للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة، ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏‏.‏
وفى ‏"‏الصحيحين‏"‏ من حديث معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من يرد الله به خيراً يفقهه فى الدين‏"‏‏.‏
وعن أبى أمامة رضى الله عنه قال‏:‏ ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلان‏:‏ أحدهما‏:‏ عابد، والآخر‏:‏ عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم‏"‏، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرض، حتى النملة فى جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير‏"‏ رواه الترمذى وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏
وفى حديث آخر‏:‏ ‏"‏فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر‏"‏‏.‏
وعن صفوان بن عسال رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب‏"‏ رواه الإمام أحمد، وابن ماجة‏.
قال الخطابي‏:‏ فى معنى وضعها أجنحتها ثلاثة أقوال‏:
أحدها‏:‏ أنه بسط الأجنحة‏.‏
الثاني‏:‏ أنه بمعنى التواضع لطالب العلم‏.‏الثالث‏:‏ أن المراد به النزول عند مجالس العلم وترك الطيران‏.‏
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ “ من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة رواه مسلم‏.‏
وروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، كان بينه وبين الأنبياء فى الجنة درجة واحدة ، وفيه أخبار كثيرة‏.‏
وكان بعض الحكماء يقول‏:‏ ليت شعري، أي شىء أدرك من فاته العلم، وأي شىء فات من أدرك العلم‏.‏
ومن فضائل التعليم ما أخرجاه فى “الصحيحينعن سهل بن سعد رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلى رضى الله عنه‏:‏ “ لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير من أن يكون لك حمر النعم”‏.
وقال ابن عباس‏:‏ “ إن الذى يعلم الناس الخير تستغفر له كل دابة حتى الحوت فى البحر”‏.‏ وروى نحو ذلك فى حديث مرفوع إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلم‏.‏
فإن قيل‏:‏ ما وجه استغفار الحوت للمعلم‏؟‏
فالجواب‏:‏ أن نفع العلم يَعُمُّ كل شىء حتى الحوت، فإن العلماء عرفوا بالعلم ما يحل ويحرم، وأوصوا بالإحسان إلى كل شىء حتى إلى المذبوح ‏‏ والحوت، فألهم الله تعالى الكل الاستغفار لهم جزاءاً لحسن صنيعهم‏.‏

وعن أبى موسى رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ “إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب ‏(1) أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي
قيعان (2)‏ لا تمسك ماء ولاتنبت كلأ، فذلك مثل من َفقُه فى دين الله ونفعه الله بما بعثنى به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت بهأخرجاه فى “الصحيحين‏.‏
فانظر رحمك الله إلى هذا الحديث ما أوقعه على الخلق، فإن الفقهاء أولي الفهم، كمثل البقاع التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ، لأنهم علموا وفهموا، وفرعوا وعلَّموا‏.‏ وغاية الناقلين من المحدثين الذين لم يرزقوا الفقه والفهم، أنهم كمثل الأجادب التي حفظت الماء فانتفع بما عندهم، وأما الذين سمعوا ولم يتعلموا ولم يحفظوا، فهم العوام الجهلة‏.‏
وقال الحسن رحمه الله‏:‏ لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم‏.‏
وقال معاذ بن جبل رضى الله تعالى عنه‏:‏ تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاده، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس فى الوحدة، والصاحب فى الخلوة‏.‏
وقال كعب رحمه الله‏:‏ أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام‏:‏ أن تعلم يا موسى الخير وعلمه للناس، فإني منور لمعلم الخير ومتعلمه قبورهم حتى لا يستوحشوا بمكانهم‏.‏
1ـ فصل ‏[‏ طلبُ العلمِ فريضةُُ‏]‏
قد روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ “ طلب العلم فريضة على كل مسلم رواه أحمد فى “العلل” ‏‏.‏
قال المصنف رحمه الله تعالى‏:‏ اختلف الناس فى ذلك‏.
فقال الفقهاء‏:‏ هو علم الفقه، إذ به يعرف الحلال والحرام‏.‏
وقال المفسرون والمحدثون‏:‏ هو علم الكتاب والسنة، إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها‏.‏
وقالت الصوفية‏:‏ هو علم الإخلاص وآفات النفوس‏.‏
وقال المتكلمون‏:‏ هو علم الكلام‏.‏ إلى غير ذلك من الأقوال التي ليس فيها قول مرضى، والصحيح أنه علم معاملة العبد لربه‏.‏
والمعاملة التي كلفها على ثلاثة أقسام‏:‏
اعتقاد، وفعل، وترك‏.‏
فإذا بلغ الصبى، فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة وفهم معناها وإن لم يحصل ذلك بالنظر والدليل، لأن النبى صلى الله عليه وآله وسلم اكتفى من أجلاف العرب بالتصديق من غير تعلم دليل، فذلك فرض الوقت، ثم يجب عليه النظر والاستدلال‏.‏
فإذا جاء وقت الصلاة وجب عليه تعلم الطهارة والصلاة، فإذا عاش إلى رمضان وجب عليه تعلم الصوم، فإن كان له مال وحال عليه الحول وجب عليه تعلم الزكاة، وإن جاء وقت الحج وهو مستطيع وجب عليه تعلم المناسك‏.‏
وأما التروك‏:‏ فهو بحسب ما يتجدد من الأحوال، إذ لا يجب على الأعمى تعلم ما يحرم النظر إليه، ولا على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام، فإن كان فى بلد يتعاطى فيه شرب الخمر ولبس الحرير، وجب عليه أن يعرف تحريم ذلك‏.‏
وأما الاعتقادات‏:‏ فيجب علمها بحسب الخواطر، فإن خطر له شك فى المعاني التي تدل عليها كلمتا الشهادة، وجب عليه تعلم ما يصل به إلى إزالة الشك‏.‏ وإن كان فى بلد قد كثرت فيه البدع، وجب عليه أن يتلقن الحق، كما لو كان تاجراً فى بلد شاع فيه الربا، وجب عليه أن يتعلم الحذر منه‏.‏
وينبغى أن يتعلم الإيمان بالبعث والجنة والنار‏.‏
فبان بما ذكرنا أن المراد بطلب العلم الذى هو فرض عين‏:‏ ما يتعين وجوبه على الشخص‏.‏
فأما فرض الكفاية‏:‏ فهو علم لا يُستغنى عنه فى قِوَام أمور الدنيا، كالطب إذ هو ضروري فى حاجة بقاء الأبدان على الصحة، والحساب، فإنه ضروري فى قسمة المواريث والوصايا وغيرها‏.‏
فهذه العلوم لو خلا البلد عمن يقوم بها حَرِجَ أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الباقين‏.‏
ولا يُتعجب من قولنا‏:‏ إن الطب والحساب من فروض الكفاية، فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفاية، كالفلاحة والحياكة، بل الحجامة فإنه لو خلا البلد عن حَجَّام لأسرع الهلاك إليهم، فإن الذى أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله‏.‏
وأما التعَّمق فى دقائق الحساب، ودقائق الطب وغير ذلك، فهذا يعد فضله، لأنه يستغنى عنه (3)
وقد يكون بعض العلوم مباحاً، كالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار‏.‏
وقد يكون بعضها مذموماً، كعلم السحر، والطلسمات، والتلبيسات‏.‏
فأما العلوم الشرعية فكلها محمودة، وتنقسم إلى أصول، وفروع، ومقدمات ومتممات‏.‏
فالأصول‏:‏ كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإجماع الأمة، وآثار الصحابة‏.‏
والفروع‏:‏ ما فهم من هذه الأصول من معان تنبهت لها العقول حتى فهم من اللفظ الملفوظ وغيره، كما فهم من قوله‏:‏ “لا يقضى القاضي وهو غضبان” أنه لا يقضى جائعاً‏.‏
والمقدمات‏:‏ هي التي تجرى مجرى الآلات، كعلم النحو واللغة، فإنهما آلة لعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم‏.‏
والمتممات‏:‏ كعلم القراءات، ومخارج الحروف، وكالعلم بأسماء رجال الحديث وعدالتهم وأحوالهم، فهذه دهى العلوم الشرعية، وكلها محمودة‏.‏
2ـ فصل ‏[‏في علم المعاملة‏]‏
فأما علم المعاملة وهو علم أحوال القلب، كالخوف، والرجاء، والرضى، والصدق، والإخلاص وغير ذلك، فهذا العلم ارتفع به كبار العلماء، وبتحقيقه اشتهرت أذكارهم، كسفيان ‏، وأبى حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد‏.‏
وإنما انحطت رتبة المسمين بالفقهاء والعلماء عن تلك المقامات، لتشاغلهم بصورة العلم من غير أخذ على النفس أن تبلغ إلى حقائقه وتعمل بخفاياه‏.‏
وأنت تجد الفقيه يتكلم فى الِّظهار، واللِّعان، والسبع، والرمى، ويفرع التفريعات التي تمضى الدهور فيها ولا يحتاج إلى مسألة منها، ولا يتكلم فى الإخلاص، ولا يحذر من الرياء، وهذا عليه فرض عين، لأن في إهماله هلاكه، والأول فرض كفاية‏.‏ ولو أنه سئل عن علة ترك المناقشة للنفس فى الإخلاص والرياء لم يكن له جواب‏.‏ ولو سئل عن علة

 تشاغله بمسائل اللعان والرمى، لقال‏:‏ هذا فرض كفاية، ولقد صدق، ولكن خفي عليه أن الحساب فرض كفاية أيضاً، فهلا تشاغل به، وإنما تبهرج عليه النفس، لأن مقصودها من الرياء والسمعة يحصل بالمناظرة، لا بالحساب‏!‏
واعلم‏:‏ أنه بدلت ألفاظ وحرفت، ونُقلت إلى معان لم يردها السلف الصالح‏.‏
* فمن ذلك‏:‏ الفقه، فإنهم تصرفوا فيه بالتخصيص، فخصوه بمعرفة الفروع وعللها، ولقد كان اسم الفقه فى العصر الأول منطلقاً على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب‏.‏
ولذلك قال الحسن ‏ رحمه الله‏:‏ إنما الفقيه الزاهد فى الدنيا، الراغب فى الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الوَرِع الكافُّ عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لهم‏.‏
فكان إطلاقهم اسم الفقه على علم الآخرة أكثر، لأنه لم يكن متناولاً للفتاوى، ولكن كان متناولاً لذلك بطريق العموم والشمول، فثار من هذا التخصيص تلبيس بعث الناس على التجرد لعلم الفتاوى الظاهرة، والإِعراض عن علم المعاملة للآخرة‏.‏
اللفظ الثاني‏:‏ العلم‏.‏ فقد كان ذلك يطلق على العلم بالله تعالى وبآياته، آي‏:‏ نعمه وأفعاله فى عباده، فخصوه وسموا به الغالب المناظر فى مسائل الفقه وإن كان جاهلاً بالتفسير والأخبار‏.‏
اللفظ الثالث‏:‏ التوحيد‏:‏ وقد كان ذلك إشارة إلى أن ترى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع الالتفات إلى الأسباب والوسائط، فيثمر ذلك التوكل والرضى وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام فى الأصول، وذلك من المنكرات عند السلف‏.‏
اللفظ الرابع‏:‏ التذكير والذكر‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَذكَّرْ َفإنَّ الذَّكْرَى تْنَفعُ الُمْؤمنينَ‏}‏ ‏(‏الذاريات‏:‏ 55‏)‏‏.‏
وقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏”إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا‏:‏ وما رياض الجنة‏؟‏ قال‏:‏ مجالس الذكر فتقلوا ذلك إلى القصص وما يحتوى عليه اليوم مجلس القاص من الشطح والطامات‏.‏
ومن تشاغل فى وعظة بذكر قصص الأولين، فليعلم أن اكثر ما يحكى فى ذلك لا يثبت، كما ينقلون أن يوسف عليه السلام حل تكته، وأنه رأى يعقوب عاضا على يده، وأن داود جهز أوريا حتى قتل، فمثل هذا يضر سماعه‏.‏
وأما الشطح والطامات‏:‏ فمن أشد ما يؤذى العوام، لأنها تشمل على ذكر المحبة والوصال وألم الفراق، وعامة الحاضرين أجلاف، بواطنهم محشوة بالشهوات وحب الصور، فلا يحرك ذلك من قلوبهم إلا ما هو مستكن فى نفوسهم، فيشتعل فيها نار الشهوة، فيصيحون، وكل ذلك فساد‏.‏
وربما احتوى الشطح على الدعاوى العريضة فى محبة الله تعالى، وفى هذا ضرر عظيم‏.‏ وقد ترك جماعة من الفلاحين فلاحتهم، وأظهروا مثل هذه الدعاوى‏.‏
اللفظ الخامس‏:‏ الحكمة‏.‏ والحكمة‏:‏ العلم والعمل به‏.‏
قال ابن قتيبة رحمة الله‏:‏ لا يكون الرجل حكيما حتى يجمع العلم والعمل‏.‏ وقد صار هذا الاسم يطلق فى هذا الزمان على الطبيب والُمنِّجم‏.‏
3ـ فصل ‏(‏في العلوم المحمودة‏)‏
وأعلم أن العلوم المحمودة تنقسم إلى قسمين‏:‏

الأول‏:‏ محمود إلى أقصى غاياته، وكلما كان أكثر كان أحسن وأفضل‏.‏ وهو العلم بالله تعالى، وبصفاته، وأفعاله، وحكمته فى ترتيب الآخرة على الدنيا، فان هذا علم مطلوب لذاته، والتوصل به إلى سعادة الآخرة، وهو البحر الذى لا يدرك غوره وانما يحوم اُلمَحِّومون على سواحله وأطرافه بقدر ما تيسر لهم‏.‏
والقسم الثاني‏:‏ العلوم التي لا يحمد منها إلا مقدار مخصوص، وهى التي ذكرناها من فروض الكفايات، فان فى كل منها افتقاراً واقتصاراً واستقصاءاً‏.‏
فكن أحدَ رجلين‏:‏ إما مشغولاً بنفسك، وإما متفرغاً لغيرك بعد الفراغ من نفسك‏.‏
وإياك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل إصلاح نفسك، واشتعل بإصلاح باطنك وتطهيره من الصفات الذميمة، كالحرص، والحسد، والرياء، والعجب، قبل إصلاح ظاهرك، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى فى ربع المهلكات‏.‏
فان لم تتفرغ من ذلك فلا تشتغل بفروض الكفايات، فان فى الخلق كثيراً يقومون بذلك، فإن مهلك نفسه فى طلب صلاح غيره سفيه، ومثله مثل من دخلت العقارب تحت ثيابه وهو يذب الذباب عن غيره‏.‏
فإن تفرغت من نفسك وتطهيرها، وما أبعد ذلك ، فاشتغل بفروض الكفايات وراع التدريج فى ذلك‏.‏
فابتدأ بكتاب الله عز وجل، ثم بسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعلوم القرآن‏:‏ من التفسير، ومن ناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، إلى غير ذلك‏.‏
وكذلك فى السنة، ثم اشتغل بالفروع، وأصول الفقه وهكذا بقية العلوم على ما يتسع العمر ويساعد فيه الوقت‏.‏
ولا تستغرق عمرك فى فن واحد منها طلباً للاستقصاء، فان العلم كثير، والعمر قصير، وهذه العلوم آلات يراد بها غيرها، وكل شىء يطلب لغيره فلا ينبغي أن ينسى فيه المطلوب‏.
4ـ فصل ‏(‏فى عَالمٍ لم ينفعه علمه‏)‏
واعلم‏:‏ أن المناظرة الموضوعة لقصد المغالبة والمباهاة منبع الأخلاق المذمومة، ولا يسلم صاحبها من كبر، لاحتقار المقصرين عنه، وعجب بنفسه لارتفاعه على كثير من نظرائه، ولا يسلم من الرياء، لأن جمهور مقصود المناظر اليوم علم الناس بغلبته، وإطلاق ألسنتهم بشكره ومدحه، فهو يُذِهبُ عمره فى العلوم التي تعين على المناظرة مما لا ينفع فى الآخرة، كحسن اللفظ، وحفظ النوادر‏.‏
وقد روى فى الحديث عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه ‏(‏1‏)‏‏.‏
5ـ باب فى آداب المعلم والمتعلم
وآفات العلم وبيان علماء السوء وعلماء الآخرة
أما المتعلم فينبغي له تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الصفات‏.‏ إذ العلم عبادة القلب‏.‏
وينبغى له قطع العلائق الشاغلة، فان الفكرة متى توزعت قصرت عن إدراك الحقائق‏.‏
وقد كان السلف يؤثرون العلم على كل شىء، فروى عن الإمام احمد رحمه الله انه لم يتزوج إلا بعد الربعين‏.‏
وأهديت إلى أبى بكر الأنبارى جارية، فلما دخلت عليه تفكر فى استخراج مسألة فعزبت عنه، فقال‏:‏ أخرجوها إلى النخاس، فقالت‏:‏ هل من ذنب‏؟‏ قال‏:‏ لا، إلا أن قلبي اشتغل بك، وما قدر مثلك أن يمنعني علمي‏.‏

وعلى المتعلم أن يلقى زمامه إلي المعلم اللقاء المريض زمامه إلي الطبيب، فيتواضع له ، ويبالغ فى خدمته ‏.‏
وقد كان ابن عباس رضى الله عنه يأخذ بركاب زيد بن ثابت رضى الله عنه ويقول ‏:‏ هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء‏.‏ومتى تكبر المتعلم أن يستفيد من غير موصوف بالتقدم فهو جاهل، لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها، وليدع رأيه لرأى معلمه فان خطأ المعلم أنفع للمتعلم من صواب نفسه‏.‏
قال على رضى الله عنه‏:‏ إن من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة، وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشير عنده بيدك، ولا تغمزن بعينك، ولا تكثر عليه السؤال، ولا تعينه فى الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تراجعه إذا امتنع، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشى له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلبن عثرته، وان زل قبلت معذرته، ولا تقولن له ‏:‏ سمعت فلانا يقول كذا ، ولا أن فلاناً يقول خلافك‏.‏ ولا تصفن عنده عالماً، ولا تعرض من طول صحبته، ولا ترفع نفسك عن خدمته، وإذا عرضت له حاجة سبقت القوم إليها، فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شئ‏.‏
وينبغى أن يحترز الخائض فى العلم فى مبدأ الأمر من الإصغاء إلى اختلاف الناس، فإن ذلك يحير عقله ويفتر ذهنه‏.‏
وينبغى له أن يأخذ من كل شئ أحسنه‏.‏ لأن العمر لا يتسع لجميع العلوم، ثم يصرف جُمَام قوته إلى أشرف العلوم، وهو العلم المتعلق بالآخرة، الذى به يكتسب اليقين الذى حصله
أبو بكر الصديق رضى الله عنه، حتى شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال‏:‏ ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر فى صدره ‏ فهذه وظائف المتعلم‏.‏
وأما المعلم فعليه وظائف أيضاً‏:
من ذلك الشفقة على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه، ولا يطلب على إفاضة العلم أجراً، ولا يقصد به جزاءاً ولا شكراً، بل يعلم لوجه الله تعالى، ولايرى لنفسه منة على المتعلمين، بل يرى الفضل لهم إذ هيؤوا قلوبهم للتقرب إلى الله تعالى بزارعة العلم فيها، فهم كالذي يعير الأرض لمن يزرع فيها‏.‏فلا ينبغي أن يطلب المعلم الأجر إلا من الله تعالى‏.‏ وقد كان السلف يمتنعون من قبول هدية المتعلم‏.‏
ومنها أن لا يدخر من نصح المتعلم شيئاً، وأن يزجره عن سوء الأخلاق بطريق التعريض مهما أمكن، لا على وجه التوبيخ، فإن التوبيخ يهتك حجاب الهيبة‏.‏
ومنها‏:‏ أن ينظر فى فهم المتعلم ومقدار عقله، فلا يلقي إليه مالا يدركه فهمه ولا يحيط به عقله‏.‏
فقد روي عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم”‏(‏‏(‏ لم يثبت شئ من هذا عن النبى صلى الله عليه وسلم، وقد روى البخاري في ‏"‏صحيحه‏"‏ 1/199 تعليقاً فى العلم‏:‏ باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا قول علي رضي الله عنه‏:‏ حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله، قال الحافظ‏:‏ وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قول ‏:‏عبد الله بن مسعود فيما رواه الإمام مسلم فى ‏"‏صحيحه‏"‏ 1/76 بشرح النووي‏:‏ ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة‏)‏‏)‏ ‏.‏
وقال علي رضي الله عنه‏:‏ إن هاهنا علماً لو وجدت له حملته‏.‏
وقال الشافعي رحمه الله‏:‏
أأنثر دراً بين سارحة النعم أأنظم منثوراً لراعية الغنـــم
>ومن منح الجهال علماً أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم
ومنها‏:‏ أن يكون المعلم عاملاً بعلمه‏.‏ ولا يكذب قوله فعله‏.‏ قال الله تعالى‏:‏
وقال علي رضي الله عنه‏:‏ قصم ظهري رجلان‏:‏ عالم متهتك، وجاهل متنسك‏.‏
6ـ فصل فى آفات العلم وبيان علماء السوء وعلماء الآخرة
علماء السوء‏:‏ هم الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا، والتوصل إلى المنزلة عند أهلها‏.‏
وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ “من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من
الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة” يعنى ريحها‏.
وفى حديث آخر أنه قال‏:‏ من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فهو في النار رواه الترمذي‏.‏
وفى ذلك أحاديث كثيرة‏.‏
وقال بعض السلف‏:‏ أشد الناس ندامة عند الموت عالم مفرط‏.‏
واعلم‏:‏ أن المأخوذ على العالم أن يقوم بالأوامر والنواهي، وليس عليه أن يكون زاهداً ولا معرضاً عن المباحات، إلا أنه ينبغي له أن يتقلل من الدنيا مهما استطاع، لأنه ليس كل جسم يقبل التعلل، فإن الناس يتفاوتون‏.‏
وروى أن سفيان الثوري رحمه الله كان حسن المطعم‏.‏ وكان يقول‏:‏ إن الدابة إذا لم يحسن إليها في العلف لم تعمل‏.‏
وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يصبر من خشونة العيش على أمر عظيم والطباع تتفاوت‏.‏
ومن صفات علماء الآخرة أن يعلموا أن الدنيا حقيرة، وأن الآخرة شريفة‏.‏ وأنهما كالضرتين، فهم يؤثرون الآخرة، ولا تخالف أفعالهم أقوالهم، ويكون ميلهم إلى العلم النافع فى الآخرة، ويجتنبون العلوم التي يقل نفعها إيثاراً لما يعظم نفعه، كما روي عن شقيق البلخي رحمه الله أنه قال لحاتم‏:‏ قد صحبتني مدة، فماذا تعلمت‏؟‏
قال‏:‏ ثمانية مسائل‏:‏
أما الأولى‏:‏ فإني نظرت إلى الخلق، فإذا كل شخص له محبوب، فإذا وصل إلى القبر فارقه محبوبه، فجعلت محبوبي حسناتي لتكون في القبر معي‏.‏
وأما الثانية‏:‏ فإني نظرت إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونهى النفس عن الهوى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 40‏]‏ فأجهدتها فى دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى‏.‏
وأما الثالثة‏:‏ فإني رأيت كل من معه شئ له قيمة عنده يحفظه، ثم نظرت فى قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ما عندكم ينفد وما عند الله باق‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 96‏]‏ فكلما وقع معي شئ له قيمة، وجهته إليه ليبقى لى عنده‏.‏
وأما الرابعة‏:‏ فإني رأيت الناس يرجعون إلى المال والحسب والشرف، وليست
بشئ، فنظرت فى قوله الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏ فعملت فى التقوى لأكون عنده كريماً‏.‏
أما الخامسة‏:‏ فأنى رأيت الناس يتحاسدون، فنظرت فى قوله تعالى‏:‏ {‏نحن قسمنا بينهم معيشتهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 32‏]‏ فتركت الحسد‏.‏
والسادسة‏:‏ رأيتهم يتعادون، فنظرت فى قول الله تعالى ‏:‏‏{‏إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً‏}‏ ‏[‏فاطر ‏:‏ 6‏]‏ فتركت عدواتهم واتخذت الشيطان وحده عدواً‏.‏
السابعة ‏:‏ رأيتهم يذلون أنفسهم، فنظرت فى قول تعالى ‏:‏‏{‏وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها‏}‏ ‏[‏هود ‏:‏ 6‏]‏ فاشتغلت بما له علي وتركت ما لى عنده‏.‏
والثامنة ‏:‏ رأيتهم متوكلين على تجارتهم وصنائعهم وصحة أبدانهم، فتوكلت على الله تعالى‏.‏
ومن صفات علماء الآخرة ‏:‏أن يكونوا منقبضين عن السلاطين ، محترزين من مخالطتهم‏.‏
قال حذيفة رضى الله عنه ‏:‏ إياكم ومواقف الفتن ‏.‏ قيل ‏:‏ وما هي ‏؟‏ قال ‏:‏ أبواب الأمراء ، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ، ويقول ما ليس فيه‏.‏
وقال سعيد بن المسيب رحمه الله ‏:‏ إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء، فاحذروا منه فإنه لص‏.‏
وقال بعض السلف‏:‏ إنك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك أفضل منه‏.‏
ومن صفات علماء الآخرة ‏:‏ أن لا يسترعوا إلى الفتوى، وأن لا يفتوا إلا بما يتيقنون صحته‏.‏
وقد كان السلف يتدافعون الفتوى حتى ترجع إلى الأول‏.‏
وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى رحمه الله‏:‏ أدركت فى هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما أحد يسأل عن حديث أو فتوى إلا وَدَّ أن أخاه كفاه ذلك ‏.‏ ثم قال آل الأمر إلى إقدام أقوام يدعون العلم اليوم ، يقدمون على الجواب في مسائل لو عرضت لعمر بن الخطاب رضى الله عنه لجمع أهل بدر‏.‏ واستشارهم‏.‏
ومن صفاتهم ‏:‏ أن يكون أكثر بحثهم فى علم الأعمال عما يفسدها ويكدر القلوب ويهيج الوساوس، فإن صور الأعمال قريبة سهلة، وإنما التعب فى تصفيتها‏.‏
وأصل الدين ‏:‏ التوقي من الشر، ولا يصح أن يتوقى حتى يعرف‏.‏
ومن صفاتهم ‏:‏ البحث عن أسرار الأعمال الشرعية، والملاحظة لحكمها ‏.‏ فان عجز عن الاطلاع على العلة كفاه التسليم للشرع‏.‏
ومن صفاتهم ‏:‏ اتباع الصحابة وخيار التابعين، وتوقى كل محدث‏.‏
كتاب : الطهارة وأسرارها والصلاة وما يتعلق بها
اعلم‏:‏ أن الطهارة لها أربع مراتب‏:
الأولى ‏:‏ تطهير الظاهر من الأحداث والأنجاس والفضلات‏.
والثانية ‏:‏ تطهير الجوارح من الذنوب والآثام‏.
والثالثة ‏:‏ تطهير القلب من الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة‏.
والرابعة ‏:‏ تطهير السر عما سوى الله تعالى، وهذا هو الغاية القصوى، فمن قويت بصيرته سمت إلى هذا المطلوب، ومن المبالغة فى الاستنجاء وغسل الثياب، ظناً منه بحكم الوسوسة وقلة العلم أن الطهارة المطلوبة هي هذه فقط، وجهلاً بسير المتقدمين الذين كانوا يستغرقون الزمان فى تطهير القلوب ويتساهلون فى أمر الظاهر، كما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه توضأ من جرة نصرانية، وكانوا لا يكادون يغسلون أيديهم من الزُّهم (1)‏ ويصلون على الأرض، ويمشون حفاة، ويقتصرون فى الاستجمار على الأحجار‏.‏
وقد انتهى الأمر إلى قوم يسمون الرعونة (2) نظافة، فترى أكثر زمانهم يمضى فى تزيين الظواهر، وبواطنهم خراب محشوة بخبائث الكبر، والعجب ، والجهل، والرياء والنفاق ‏.‏ ولو رأوا مقتصرا فى الاستجمار على الحجر ، أو حافياً يمشى على الأرض ، أو من يصلى عليها من غير حائل، أو متوضأ من آنية عجوز، لأنكروا عليه أشد الإنكار ، ولقبوه بالقذر، واستنكفوا من مؤاكلته‏.‏
فانظر كيف جعلوا البذاذة ‏(3) التي هي من الإيمان قذارة، والرعونة نظافة، وصيروا المنكر معروفاً، والمعروف منكراً‏.‏ لكن من قصد بهذه الطهارة النظافة ولم يسرف فى الماء، ولم يعتقد أن استعمال الماء الكثير أصل الدين، فليس ذلك بمنكر، بل هو فعل حسن‏.‏ وليرجع فى معرفة الأنجاس والأحداث إلى كتب الفقه، فإن المقصود من هذا الكتاب الآداب‏.‏
وأما إزالة الفضلات فهي نوعان‏:‏
‏[‏النوع الأول‏]‏ ‏:‏ أوساخ تزال ، كالذي يجتمع فى الرأس من الوسخ والدرن، فيستحب تنظيفه بالغسل والترجيل (4)‏ والتدهين لإزالة الشعث ، وكذلك ما يجتمع فى الأذن من الوسخ يستحب إزالته‏.‏
ويستحب التسوك والمضمضة لإزالة ما على الاثنان واللسان من القلح (5) ،وكذلك وسخ البراجم ‏(6)‏ والدرن الذى يجتمع على جيمع البدن برشح العرق وغبار الطريق ، وذلك يزيله الغسل‏.‏ولا بأس بدخول الحمام، فانه أبلغ فى الإزالة، وقد دخله جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لكن على داخله صيانة عورته من نظر الغير إليها ولمسه إياها ‏.‏ وينبغى للداخل إليه أن يتذكر بحرارته حر النار، فان فكرة المؤمن لا تزال تجول فى كل شئ من أمور الدنيا فيذكر به أمور الآخرة ، لأن الغالب على المؤمن أمر الآخرة، وكل إناء ينضح بما فيه ‏.‏ ألا ترى أنه لو دخل إلى دار -معمورة- بَزَّاز، ونجار، وبناء، وحائك، رأيت البزاز ينظر إلى الفرش يتأمل قيمتها ، والحائك ينظر إلى نسج الثياب، والنجار ينظر إلى سقف الدار والبناء ينظر إلى الحائط، فكذلك المؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن سمع صوتا هائلا تذكر نفخة الصور، وإن رأى نعيماً تذكر نعيم الجنة، وإن رأى عذاباً ذكر النار‏.‏
ويكره دخول الحمام قريباً من الغروب وبين العشاءين ، فانه وقت انتشار الشياطين‏.‏
النوع الثاني من إزالة الفضلات‏:‏ أجزاء تحذف، مثل قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الأظافر‏.‏ ويكره نتف الشيب، ويستحب خضابه‏.‏
وبأبقى مراتب الطهارة يأتى فى ربع المهلكات والمنجيات إن شاء الله تعالى‏.‏
1ـ فصل ‏[‏فى فضائل الصلاة‏]‏
وأما الصلاة فإنها عماد الدين وغرة الطاعات‏.‏ وقد ورد فى فضائل الصلاة أخبار كثيرة مشهورة، ومن أحسن آدابها الخشوع‏.‏
وقد روى عن عثمان ‏ رضى الله عنه ، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ‏:‏ “ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله “‏.
وله فى حديث أيضا عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه “‏. بصيرته لم يفهم من مراتب الطهارة إلا المرتبة الأولى، فتراه يضيع أكثر زمانه الشريف فى

وكان ‏ ابن الزبير رضى الله عنهما إذا قام فى الصلاة كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذع حائط، وصلى يوماً فى الحِجْر(7)‏ فجاء حجر قذافة (8)‏ فذهب ببعض ثوبه فما انفتل‏.‏
وقال ميمون بن مهران ‏:‏ ما رأيت مسلم ين يسار ملتفتاً فى صلاة قط، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها، وإنه لفى المسجد يصلى فما التفت، وكان أهل بيته إذا دخل المنزل سكتوا، فإذا قام إلى الصلاة تكلموا وضحكوا‏.‏
وكان على بن الحسن رضى الله عنهما إذا توضأ اصفر لونه ، فقيل له ‏:‏ ما هذا الذى يعتادك عند الوضوء ‏؟‏ فقال‏:‏ أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم ‏؟‏
وأعلم‏:‏ أن للصلاة أركانا وواجبات وسنناً، وروحها النية والإخلاص والخشوع وحضور القلب، فان الصلاة تشتمل على أذكار ومناجاة وأفعال ، ومع عدم حضور القلب لا يحصل المقصود بالأذكار والمناجاة، لأن النطق إذا لم يُعِربُ عما فى الضمير كان بمنزلة الهذيان ، وكذلك لا يحصل المقصود من الأفعال، لأنه إذا كان المقصود من القيام الخدمة، ومن الركوع والسجود الذل والتعظيم، ولم يكن القلب حاضراً، لم يحصل المقصود، فان الفعل متى خرج عن مقصوده بقى صورة لا اعتبار بها ، قال الله تعالى‏:‏ {‏ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ‏}‏ ‏[‏الحج ‏:‏ 37‏]‏ والمقصود أن الواصل إلى الله سبحانه وتعالى هو الوصف الذى استولى على القلب حتى حمل على امتثال الأوامر المطلوبة، فلا بد من حضور القلب فى الصلاة، ولكن سامح الشارع فى غفلة تطرأ لأن حضور القلب فى أولها ينسحب حكمه على باقيها‏.‏
والمعاني التي تتم بها حياة الصلاة كثيرة‏.
المعنى الأول‏:‏
حضور القلب كما ذكرنا ، ومعناه أن يفرغ القلب من غير ما هو ملابس له ، وسبب ذلك الهمة، فإنه متى أهمك أمر حضر قلبك ضرورة فلا علاج لإحضاره إلا صرف الهمة إلى الصلاة، وانصراف الهمة يقوى ويضعف بحسب قوة الإيمان بالآخرة واحتقار الدنيا، فمتى رأيت قلبك لا يحضر فى الصلاة، فاعلم أن سببه ضعف الإيمان، فاجتهد فى تقويته‏.‏
والمعنى الثاني‏:‏
التفهم لمعنى الكلام فإنه أمر وراء حضور القلب، لأنه ربما كان القلب حاضراً مع اللفظ دون المعنى ، فينبغي صرف الذهن إلى إدراك المعنى بدفع الخواطر الشاغلة وقطع موادها، فان المواد إذا لم تنقطع لم تنصرف الخواطر عنها‏.‏
والمواد، إما ظاهرة‏:‏ وهى ما يشغل السمع والبصر، وإما باطنة ‏:‏ وهو أشد كمن تشعبت به الهموم فى أودية الدنيا، فإنه لا ينحصر فكره فى فن واحد، ولم يغنه غض البصر، لأن ما وقع فى القلب كاف فى الاشتغال به‏.‏
وعلاج ذلك إن كان من المواد الظاهرة، بقطع ما يشغل السمع والبصر، وهو القرب من القبلة، والنظر إلى موضع سجوده ، والاحتراز فى الصلاة من المواضع المنقوشة، وأن لا يترك عنده ما يشغل حسه ، فإن النبى صلى الله عليه وآله وسلم لما صلى فى أبجانية (9) لها أعلام نزعها وقال ‏:‏ “ إنها ألهتني آنفا عن صلاتي‏.‏
وإن كان من المواد الباطنة، فطريق علاجه أن يرد النفس قهراً إلى ما يقرأ فى الصلاة ويشغلها به عن غيره، ويستعد لذلك قبل الدخول فى الصلاة، بأن يقضى أشغاله، ويجتهد فى تفريغ قلبه ويجدد على نفسه ذكر الآخرة وخطر القيام بين يدي الله عز وجل وهول المطلع ، فان لم تسكن الأفكار بذلك ، فليعلم أنه إنما يتفكر فيما أهمه واشتهاه ، فليترك تلك الشهوات وليقطع تكل العلائق‏.‏
واعلم‏:‏ أن العلة متى تمكنت لا ينفعها إلا الدواء القوى، والعلة إذا قويت جاذبت المصلى وجاذبها إلى أن تنقضي الصلاة فى المجاذبة، ومثل ذلك كمثل رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره، وكانت أصوات العصافير تشوش عليه وفى يده خشبة يطيرها بها، فما يستقر فكره حتى تعود العصافير فيشتغل بها، فقيل له ‏:‏ هذا شئ لا ينقطع ، فإن

 أردت الخلاص فاقطع الشجرة، فكذلك شجرة الشهوة إذا علت وتفرقت أغصانها انجذبت أليها الأفكار كانجذاب العصافير إلى الأشجار والذباب إلى الأقذار ، فذهب العمر النفيس فى دفع ما لا يندفع ، وسبب هذه الشهوات التي توجب هذه الأفكار حب الدنيا‏.‏
قيل لعامر بن عبد قيس رحمه الله ‏:‏ هل تحدثك نفسك بشيء من أمور الدنيا فى الصلاة ‏؟‏ فقال‏:‏ لأن تختلف الأسنة في أحبُّ إلي من أجد هذا‏.‏
واعلم‏:‏ أن قطع حب الدنيا من القلب أمر صعب وزواله بالكلية عزيز، فليقع الاجتهاد فى الممكن منه ، والله الموفق والمعين‏.‏
وذلك يتولد من شيئين ‏:‏ معرفة جلال الله تعالى وعظمته،ومعرفة حقارة النفس وأنها مستعبدة، فيتولد من المعرفتين‏:‏ الاستكانة ، والخشوع‏.‏
ومن ذلك الرجاء ‏:‏ فانه زائد على الخوف ، فكم من معظم ملكاً يهابه لخوف سطوته كما يرجو بره‏.‏
والمصلى ينبغي أن يكون راجياً بصلاته الثواب، كما يخاف من تقصيره العقاب‏.‏
وينبغى للمصلى أن يحضر قلبه عند كل شئ من الصلاة، فإذا سمع نداء المؤذن فليمثل النداء للقيامة ويشمر للاجابة، ولينظر ماذا يجيب، وبأي بدن يحضر‏.‏ وإذا ستر عورته فليعلم أن المراد من ذلك تغطية فضائح بدنه عن الخلق ، فليذكر عورات باطنه وفضائح سره التي لا يطلع عليها إلا الخالق ، وليس لها عنه ساتر ، وأنها يكفرها الندم، والحياء، والخوف‏.‏
وإذا استقبل القبلة فقد صرف وجهه عن الجهات إلى جهة بيت الله تعالى، فصرف قلبه إلى الله تعالى أولى من ذلك ، فكما أنه لا يتوجه إلى جهة البيت إلا بالانصراف عن غيرها، كذلك القلب لا ينصرف إلى الله تعالى إلا بالانصراف عما سواه‏.‏إذا كبرت أيها المصلى، فلا يكذبن قلبك لسانك، لأنه إذا كان فى قلبك أكبر من الله تعالى قد كذبت ، فاحذر أن يكون الهوى عندك أكبر بدليل إيثارك موافقته على طاعة الله تعالى‏.‏ فإذا استعذت، فاعلم أن الاستعاذة هي لجأ الى لله سبحانه، فإذا لم تلجأ بقلبك كان كلامك لغواً ، وتفهم معنى ما تتلو، وأحضر التفهم بقلبك عند قولك‏:‏ {‏الحمد لله رب العالمين‏}‏، واستحضر لطفه عند قولك ‏:‏ ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏، وعظمته عند قولك ‏:‏ ‏{‏مالك يوم الدين ‏}‏ ‏,‏ وكذلك فى جميع ما تتلو‏.‏
وقد روينا عن زرارة بن أبى أوفى رضى الله عنه أنه قرأ فى صلاته ‏:‏ ‏{‏ فإذا نقر فى الناقور‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏8‏]‏ فخر ميتاً، وما ذاك إلا لأنه صور تلك الحال فأثرت عنده التلف‏.‏
واستشعر فى ركوعك التواضع ، وفى سجودك الذل، لأنك وضعت النفس موضعها، ورددت الفرع إلى أصله بالسجود على التراب الذى خلقت منه وتفهم منه معنى الأذكار بالدوق‏.‏
واعلم‏:‏ أن أداء الصلاة بهذه الشروط الباطنة سبب لجلاء القلب من الصدأ ، وحصول الأنوار فيه التي بها تتلمح عظمى المعبود، وتطلع على أسراره وما يعقلها إلا العالمون‏.‏
فأما من هو قائم بصورة الصلاة دون معانيها، فانه لا يطلع على شئ من ذلك بل ينكر وجوده‏.‏
2ـ فصل في آداب تتعلق بصلاة الجمعة ويوم الجمعة
وهى نحو من خمسة عشر‏:
أحدها‏:‏ أن يستعد لها من يوم الخميس وفى ليلة الجمعة، بالتنظيف، وغسل الثياب ، وإعداد ما يصلح لها‏.‏
الثاني‏:‏ الاغتسال فى يومها، كما فى الأحاديث فى “الصحيحين” وغيرهما‏.‏ والأفضل فى الاغتسال أن يكون قبيل الرواح إليها‏.‏
الثالث‏:‏ التزين بتنظيف البدن، وقص الأظفار، والسواك، وغير ذلك مما تقدم من إزالة الفضلات، ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه‏.‏
الرابع‏:‏ التبكير إليها ماشياً‏.
وينبغى للساعى إلى الجامع أن يمشى بسكون وخشوع ، وينوى الاعتكاف في المسجد إلى وقت خروجه‏.‏
الخامس ‏:‏أن لا يتخطى رقاب الناس ولا يفرق بين اثنين إلا أن يرى فرجة فيتخطى إليها‏.‏
السادس‏:‏ أن لا يمر بين يدي المصلى‏.
السابع‏:‏ أن يطلب الصف الأول، إلا أن يرى منكراً أو يسمعه فيكون له فى التأخر عذراً‏.‏
الثامن ‏:‏أن يقطع النفل من الصلاة والذكر عند خروج الإمام ، ويشتغل بإجابة المؤذن ، ثم بسماع الخطبة‏.‏
التاسع‏:‏ أن يصلى السنة بعد الجمعة إن شاء ركعتين، وإن شاء أربعاً، وإن شاء ستاً‏.‏
العاشر‏:‏ أن يقيم فى المسجد حتى يصلى العصر، وإن أقام إلى المغرب فهو أفضل‏.‏
الحادى عشر‏:‏ أن يراقب الساعة الشريفة التي فى يوم الجمعة بإحضار القلب وملازمة الذكر‏.‏واختلف في هذه الساعة، ففى أفراد مسلم من حديث أبى موسى رضى الله عنه ‏:‏ أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة (‏‏(‏أخرجه مسلم ‏(‏852‏)‏ فى الجمعة ‏:‏ باب فى الساعة التي فى يوم الجمعة من حديث بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبى بردة بن أبى موسى، عن أبى موسى‏.‏ وقد أعل بالانقطاع والاضطراب ، أما الانقطاع، فلأن مخرمة بن بكير لم يسمع من أبية ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ أما الإضراب، فقد رواه أبو إسحاق وواصل الأحدب ومعاوية بن قرة وغيرهم عن أبى بردة من قوله، وهؤلاء من أهل الكوفة وأبو بردة كوفى، فهم أعلم بحديثه من بكير المدني، وهم عدد وهو واحد، ولذا جزم الدار قطني بأن الموقوف هو الصواب، وحديث جابر أنها أخر ساعة بعدى العصر أخرجه أبو داود ‏(‏1048‏)‏ والنسائي 3/93،100 وسنده جيد، وصححه الحاكم 1/279 ووافقه الذهبى، وصححه أيضا النووي وحسنه الحافظ ابن حجر ، ويشهد له حديث أنس الذى أورده المؤلف بعده ‏)‏‏)‏ وفى حديث آخر‏:‏ هي ما بين فراغ الإمام من الخطبة إلى أن تقضى الصلاة‏.‏ وفى حديث جابر رضى الله عنه ‏:‏ أنها آخر ساعة بعد العصر‏.‏ وفى حديث أنس رضى الله عنه قال ‏:‏ التمسوها ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس‏.
وقال أبو بكر الأثرم رحمه الله ‏:‏ لا تخلو هذه الأحاديث من وجهين ‏:‏ إما أن يكون بعضها أصح من بعض، وإما أن تكون هذه الساعة تنتقل فى الأوقات كتنقل ليلة القدر فى ليالي العشر‏.‏
الثاني عشر‏:‏ أن يكثر من الصلاة على النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى هذا اليوم ، فقد روى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ‏:‏ “ من صلى على فى يوم الجمعة ثمانين مرة غفر الله ذنوب ثمانين سنة
وحديث أبى بن كعب قلت ‏:‏ يارسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعلك لك من صلاتي‏؟‏ قال‏:‏ ما شئت، قلت‏:‏ الربع ‏؟‏ قال ‏:‏ ما شئت وإن زدت فهو خير، قلت ‏:‏ النصف ، قال‏:‏ ما شئت، وإن زدت فهو خير، قلت‏:‏ الثلثين ، قال ‏:‏ ما شئت ، وإن زدت فهو خير، قلت ‏:‏ النصف، قال ما شئت ، وإن زدت فهو خير لك، قلت ‏:‏ أجعل لك صلاتي كلها، قال ‏:‏ إذاً تكفى همك‏.‏ ويغفر لك ذنبك‏"‏ أخرجه الترمذى ‏(‏2459‏)‏ وهو حديث صحيح خرجناه فى ‏"‏جلاء الأفهام فى الصلاة على خير الأنام‏"‏ لابن القيم طبع مكتبة دار البيان بدمشق ‏.‏ صفحة 45‏)‏‏)‏‏)‏‏.‏
وإن أحب زاد فى الصلاة عليه الدعاء له، كقوله ‏:‏ اللهم آت محمداًالوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه المقام المحمود الذى وعدته، اللهم اجز نبينا عنا ما هو أهله “‏.‏
وليضف إلى الصلاة الاستغفار ، فانه مستحب فى ذلك اليوم‏.‏
الثالث عشر‏:‏ أن يقرأ سورة الكهف ، فقد جاء فى حديث من رواية عائشة رضى الله عنها أنها قالت ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ “ ألا أحدثكم بسورة ملأ عظمها ما بين السماء والأرض،ولكاتبها من الأجر مثل ذلك ، ومن قرأها يوم الجمعة غفر له ما بينها وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ، ومن قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله تعالى أي الليل (10) "‏ شاء” قالوا ‏:‏ بلى يا رسول الله ‏:‏ قال “ سورة الكهف
وروى فى حديث آخر ‏:‏ أن من قرأها فى يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وفى الفتنة”‏.
ويستحب أن يكثر من قراءة القرآن فى يوم الجمعة، وأن يختم فيه أو فى ليلة الجمعة إن قدر‏.‏
الرابع عشر‏:‏ أن يتصدق فى يوم الجمعة بما أمكن، ولتكن صدقته خارج المسجد‏.‏
ويستحب أن يصلى صلاة التسبيح فى يوم الجمعة‏.‏
الخامس عشر ‏:‏ يستحب أن يجعل يوم الجمعة لأعمال الآخرة، ويكف عن جميع أشغال الدنيا‏.‏
3ـ فصل فى ذكر النوافل
اعلم ‏:‏ أن ما عدا الفرائض من الصلاة ثلاثة أقسام‏:‏
سنن، ومستحبات ،وتطوعات‏.‏
ونعنى بالسنة‏:‏ ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المواظبة عليه، كالرواتب عقيب الفرائض والوتر والضحى‏.‏
ونعنى بالمستحب ‏:‏ ما ورد الخبر بفضله ولم ينقل بالمواظبة عليه ، كالصلاة عند دخول المنزل والخروج منه‏.‏
ونعنى بالتطوعات ‏:‏ ما وراء ذلك مما لم يرد به خبر، لكن العبد يتطوع بفعله، وتسمى هذه الأقسام الثلاثة‏:‏ نوافل، لأن النفل هو زيادة، وهذه زيادة على الفرائض‏.‏
واعلم‏:‏ أن أفضل تطوعات البدن ‏:‏ الصلاة‏.‏
وأقسام النوافل وفضائلها مشهورة مذكورة فى كتب الفقه وغيرها ، لكن نذكر منها صلاة التسبيح، لأنها قد تخفى صفتها على بعض الناس‏.‏
فروى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال للعباس “ يا عماه ‏:‏ ألا أعطيك ، ألا أعلمك - وذكر الحديث إلى أن قال-‏:‏ “ تصلى أربع ركعات، تقرأ فى كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة فى أول ركعة وأنت قائم قلت ‏:‏ سبحان الله ، والحمد لله، ولا إله إلا الله ، والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشراً، ثم ترفع رأسك عن الركوع فتقولها عشراً، ثم تهوى ساجداً فتقولها وأنت ساجد عشراً ،ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً قبل أن تقوم ، فذلك خمس وسبعون ، تفعل ذلك فى أربع ركعات إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل، ففى كل جمعة مرة، فإن لم تفعل، ففى كل شهر مرة ، فإن لم تفعل ففى كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففى عمرك مرة‏.‏
4ـ فصل ‏[‏فى أوقات النهى عن الصلاة‏]‏
ولا يتطوع فى أوقات النهى بصلاة لا سبب لها كصلاة التسبيح، لأن النهى مؤكد فيها عن الصلاة، وهذه الأشياء ضعيفة فلا واعلم ‏:‏ أن النهى عن الصلاة فى الأوقات الثلاثة له ثلاثة أسرار‏.
أحدها‏:‏ ترك التشبه بعباد الشمس‏.
الثاني‏:‏ التحذير من السجود لقرن الشيطان ، فإن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان ، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زلت الشمس فارقها، فإذا تضيفت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها‏.‏
الثالث‏:‏ إن سالكي طريق الآخرة مواظبون على العبادات ، والمواظبة على نمط واحد يورث الملل ، فإذا وقع المنع زاد النشاط، لأن النفس حريصة على ما منعت منه، فمنع الإنسان من الصلاة فى أوقات النهى ، ولم يمنع من نوع آخر من التعبد، كالقراءة، والتسبيح لينتقل العابد من حال إلى حال، كما جعلت الصلاة متنوعة بين قيام وقعود وركوع وسجود، والله أعلم‏.‏
كتاب الزكاة وأسرارها
الزكاة‏:‏أحد مباني الإسلام، وقد قرنها الله سبحانه وتعالى بالصلاة، فقال تعالى‏:‏ ‏{ وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة ‏}‏ ‏[‏البقرة ‏:‏ 43‏]‏
أما أنواع الزكاة، وأقسامها، وأسباب وجوبها، فظاهر مشهور في مظانه من كتب الفقه، وانما نذكر هاهنا بعض الشروط والآداب‏.‏
فمن الشروط أن يخرج المنصوص عليه ، ولا يخرج القيمة في الصحيح، فإن من أجاز إخراج القيمة إنما تلمح سد الخلة فقط، وسد الخلة ليس هو كل المقصود بل بعضه، فإن واجبات الشرع ثلاثة أقسام‏:
القسم الأول‏:‏ تعبد محض، كرمى الجمار، فمقصود الشرع فيه الابتلاء، بالعمل ليظهر عبودية العبد بفعل ما لا يعقل له معنى، لأن ما يعقل معناه يساعد عليه الطبع ويدعو إليه، فلا يظهر خلوص العبودية به ، بخلاف ما ذكرنا‏.‏
والقسم الثاني‏:‏ عكس ذلك ، وهو ما لا يقصد منه التعبد، بل المقصود منه حضُّ محض ، كقضاء دين الآدميين، ورد المغصوب ونحو ذلك، وكذلك لا تعتبر فيه النية ولا الفعل ، بل كيفما وصل الحق إلى مستحقه حصل المقصود وسقط خطاب الشرع، فهذان قسمان لا تركيب فيهما‏.‏
وأما القسم الثالث‏:‏ فهو المركب، وهو أن يقصد منه الأمران جميعاً ‏:‏ امتحان المكلف، وحظ العباد، فيجتمع فيه تعبد رمى الجمار، وحظ رد الحقوق، فلا ينبغي أن ينسى أدق المعنيين وهو التعبد، ولعل الأدق هو الأهم، والزكاة من هذا القبيل، فحظ الفقير مقصود في سد الخلة، وحق التعبد مقصود الشرع في اتباع التفاصيل، وبهذا الاعتبار صارت الزكاة قرينة للصلاة والحج، والله أعلم‏.‏
1ـ فصل في دقائق الآداب الباطنة في الزكاة
اعلم‏:‏ أن على مريد الآخرة في زكاته وظائف‏:
الأولى‏:‏ أن يفهم المراد من الزكاة ، وهو ثلاثة أشياء ‏:‏ ابتلاء مدعى محبة الله تعالى بإخراج محبوبه، والتنزه عن صفة البخل المهل، وشكر نعمة المال‏.‏
الوظيفة الثانية‏:‏ الإسرار بإخراجها لكونه أبعد من الرياء والسمعة، وفى الإظهار إذلال للفقير أيضاً، فان خاف أن يتهم بعدم الإخراج أعطى من لا يبالى من الفقراء بالأخذ بين الجماعة علانية، وأعطى غيره سراً‏.‏
الوظيفة الثالثة ‏:‏ أن لا يفسدها المن والأذى، وذلك أن الإنسان إذا رأى نفسه محسناً إلى الفقير، منعماً بالإعطاء، ربما حصل منه ذلك، ولو حقق النظر لرأى الفقير محسناً إليه بقبول حق الله الذي هو طهرة له‏.‏.‏ وأما ما له سبب، كتحية المسجد، وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحوها، فعلى روايتين‏.‏


واعلم ‏:‏ أن النهى عن الصلاة فى الأوقات الثلاثة له ثلاثة أسرار‏.
أحدها‏:‏ ترك التشبه بعباد الشمس‏.
الثاني‏:‏ التحذير من السجود لقرن الشيطان ، فإن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان ، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زلت الشمس فارقها، فإذا تضيفت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها‏.‏
الثالث‏:‏ إن سالكي طريق الآخرة مواظبون على العبادات ، والمواظبة على نمط واحد يورث الملل ، فإذا وقع المنع زاد النشاط، لأن النفس حريصة على ما منعت منه، فمنع الإنسان من الصلاة فى أوقات النهى ، ولم يمنع من نوع آخر من التعبد، كالقراءة، والتسبيح لينتقل العابد من حال إلى حال، كما جعلت الصلاة متنوعة بين قيام وقعود وركوع وسجود، والله أعلم‏.‏
كتاب الزكاة وأسرارها
الزكاة‏:‏أحد مباني الإسلام، وقد قرنها الله سبحانه وتعالى بالصلاة، فقال تعالى‏:‏ ‏{ وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة ‏}‏ ‏[‏البقرة ‏:‏ 43‏]‏
أما أنواع الزكاة، وأقسامها، وأسباب وجوبها، فظاهر مشهور في مظانه من كتب الفقه، وانما نذكر هاهنا بعض الشروط والآداب‏.‏
فمن الشروط أن يخرج المنصوص عليه ، ولا يخرج القيمة في الصحيح، فإن من أجاز إخراج القيمة إنما تلمح سد الخلة فقط، وسد الخلة ليس هو كل المقصود بل بعضه، فإن واجبات الشرع ثلاثة أقسام‏:
القسم الأول‏:‏ تعبد محض، كرمى الجمار، فمقصود الشرع فيه الابتلاء، بالعمل ليظهر عبودية العبد بفعل ما لا يعقل له معنى، لأن ما يعقل معناه يساعد عليه الطبع ويدعو إليه، فلا يظهر خلوص العبودية به ، بخلاف ما ذكرنا‏.‏
والقسم الثاني‏:‏ عكس ذلك ، وهو ما لا يقصد منه التعبد، بل المقصود منه حضُّ محض ، كقضاء دين الآدميين، ورد المغصوب ونحو ذلك، وكذلك لا تعتبر فيه النية ولا الفعل ، بل كيفما وصل الحق إلى مستحقه حصل المقصود وسقط خطاب الشرع، فهذان قسمان لا تركيب فيهما‏.‏
وأما القسم الثالث‏:‏ فهو المركب، وهو أن يقصد منه الأمران جميعاً ‏:‏ امتحان المكلف، وحظ العباد، فيجتمع فيه تعبد رمى الجمار، وحظ رد الحقوق، فلا ينبغي أن ينسى أدق المعنيين وهو التعبد، ولعل الأدق هو الأهم، والزكاة من هذا القبيل، فحظ الفقير مقصود في سد الخلة، وحق التعبد مقصود الشرع في اتباع التفاصيل، وبهذا الاعتبار صارت الزكاة قرينة للصلاة والحج، والله أعلم‏.‏
1ـ فصل في دقائق الآداب الباطنة في الزكاة
اعلم‏:‏ أن على مريد الآخرة في زكاته وظائف‏:
الأولى‏:‏ أن يفهم المراد من الزكاة ، وهو ثلاثة أشياء ‏:‏ ابتلاء مدعى محبة الله تعالى بإخراج محبوبه، والتنزه عن صفة البخل المهل، وشكر نعمة المال‏.‏
الوظيفة الثانية‏:‏ الإسرار بإخراجها لكونه أبعد من الرياء والسمعة، وفى الإظهار إذلال للفقير أيضاً، فان خاف أن يتهم بعدم الإخراج أعطى من لا يبالى من الفقراء بالأخذ بين الجماعة علانية، وأعطى غيره سراً‏.‏
الوظيفة الثالثة ‏:‏ أن لا يفسدها المن والأذى، وذلك أن الإنسان إذا رأى نفسه محسناً إلى الفقير، منعماً بالإعطاء، ربما حصل منه ذلك، ولو حقق النظر لرأى الفقير محسناً إليه بقبول حق الله الذي هو طهرة له‏.‏


وإذا استحضر مع ذلك أن إخراجه للزكاة شكر لنعمة المال، فلا يبقى بينه وبين الفقير معاملة‏.‏ ولا ينبغي أن يحتقر الفقير لفقره، لأن الفضل ليس بالمال ولا النقص بعدمه‏.‏
الوظيفة الرابعة‏:‏ أن يستصغر العطية، فإن المستعظم للفعل معجب به ‏.‏ وقد قيل‏:‏ لا يتم المعروف إلا بثلاث ‏:‏ بتصغيره، وتعجيله، وستره‏.‏
الوظيفة الخامسة‏:‏ أن ينتقى من ماله أحله وأجوده وأحبه إليه، أما الحل، فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ‏.‏ وأما الأجود‏.‏ فقد قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏‏.‏
وينبغى أن يلاحظ في ذلك أمرين‏:‏ أحدهما ‏:‏ حق الله سبحانه وتعالى بالتعظيم له، فانه أحق من اختير له، ولو أن الإنسان قدم إلى ضيفه طعاماً رديئاً لأوغر صدره‏.‏
والثاني‏:‏ حق نفسه، فان الذي يقدمه هو الذي يلقاه غداً في القيامة، فينبغي أن يختار الأجود لنفسه‏.‏
وأما أحبه إليه، فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ ‏[‏آل عمران ‏:‏ 92‏]‏‏.‏
وكان ابن عمر رضى الله عنهما إذا اشتد حبه لشيء من ماله قربه لله عز وجل وروى ‏:‏ أنه نزل الجحفة وهو شاك ،فقال ‏:‏ إني لأشتهى حيتاناً، فالتمسوا له فلم يجدوا حوتا، فأخذته امرأته فصنعته ثم قربته إليه ، فأتى بمسكين، فقال ابن عمر رضى الله عنه‏:‏ خذه، فقال له أهله سبحان الله ، قد عنيتنا ومعنا زاد نعطيه، فقال‏:‏ إن عبد الله يحبه‏.‏
وروى أن سائلا وقف بباب الربيع بن خثيم رحمة الله عليه فقال‏:‏ أطعموه سكراً، فقالوا ‏:‏ نطعمه خبزاً أنفع له فقال‏:‏ ويحكم أطعموه سكراً، فإن الربيع يحب السكر‏.‏
الوظيفة السادسة‏:‏ أن يطلب لصدقته من تزكو به ، وهم خصوص من عموم الأصناف الثمانية، ولهم صفات‏:‏الأولى‏:‏ التقوى ، فليخص بصدقته المتقين ، فإنه يرد بها هممهم إلى الله تعالى‏.‏
وقد كان عامر بن عبد الله بن الزبير يتخير العباد وهم سجود، فيأتيهم بالصرة فيها الدنانير والدراهم، فيضعها عند نعالهم بحيث يحسون بها ولا يشعرون بمكانه، فقيل له‏:‏ ما يمنعك أن ترسل بها إليهم‏؟‏ فيقول‏:‏ أكره أن يتمعر وجه أحدهم إذا نظر إلى رسول أو لقيني‏.‏
الثانية ‏:‏ العلم، فإن في إعطاء العالم إعانة على العلم ونشر الدين، وذلك تقوية للشريعة‏.‏
الثالثة‏:‏ أن يكون ممن يرى الإنعام من الله وحده، ولا يلتفت إلى الأسباب إلا بقدر ما ندب إليه من شكرها ، فأما الذي عادته المدح عند العطاء، فانه سيذم عند المنع‏.‏
الرابعة ‏:‏ أن يكون صائناً لفقرة، ساترا لحاجته، كاتما للشكوى، كما قال تعالى‏:‏‏{‏يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف‏}‏ ‏[‏البقرة ‏:‏ 273‏]‏‏.‏
وهؤلاء لا يحصلون في شبكة الطالب إلا بعد البحث عنهم، وسؤال أهل كل محلة عمن هذه صفته‏.‏
الخامسة ‏:‏ أن يكون ذا عائلة ، أو محبوساً لمرض أو دين ، فهذا من المحصرين ، والتصدق عليه إطلاق لحصره‏.‏
السادسة‏:‏ أن يكون من الأقارب وذوى الأرحام، فإن الصدقة عليهم صدقة وصلة، ولك من جمع من هذه الخلال خلتين أو أكثر، كان إعطاؤه أفضل على قدر ما جمع‏.‏
2ـ فصل في آداب القابض
لابد أن يكون آخذ الزكاة من الأصناف الثمانية، وعليه في ذلك وظائف

‏[‏الوظيفة الأولى‏]‏‏:‏ أن يفهم أن الله تعالى إنما أوجب صرف الزكاة إليه ليكفيه ما أهمه ، ويجعل همومه هماً واحداً في طلب رضى الله عز وجل‏.‏
‏[‏الوظيفة الثاني‏]‏ أن يشكر المعطى ويدعو له ويثنى عليه، وليكن ذلك بمقدار شكر السبب، فان من لم يشكر الناس لم يشكر الله ، كما ورد في الحديث‏.‏
ومن تمام الشكر أن لا يحتقر العطاء وإن قل، ولا يذمه، ويغطى ما فيه من عيب‏.‏ وكما أن وظيفة الُمعطي الاستصغار فوظيفة المعطى الاستعظام، وكل ذلك لا يناقض رؤية النعمى من الله عز وجل‏.‏ فإن من لا يرى الواسطة واسطة ، فهو جاهل ، وإنما المنكر أن يرى الواسطة أصلاً‏.‏
الوظيفة الثالثة‏:‏ أن ينظر فيما يعطاه، فان لم يكن حِلًّ لم يأخذه أصلاً، لأن إخراج مال الغير ليس بزكاة، وإن كان من شبهة تورع عنه ، إلا أن يضيق عليه الأمر، فمن كان أكثر كسبه حراماً، فأخرج الزكاة ولم يعرف لما أخرجه مالك معين، كانت الفتوى فيه أن يتصدق به (1).
الوظيفة الرابعة‏:‏ أن يتوقى مواقع الشبه في قدر ما يأخذ ، فيأخذ القدر المباح له، ولا يأخذ أكثر من حاجته‏.‏ فان كان غارماً لم يزد على مقدار الدين ، أو غازياً لم يأخذ إلا مقدار ما يحتاج إليه، وإن أخذ بالمسكنة أخذ قدر حاجته دون ما يتسغنى عنه، وكل ذلك موكول إلى اجتهاده والورع ترك ما يريب‏.‏
واختلف العلماء في قدر الغنى المانع من الزكاة، والصحيح فيه أن يكون له كفاية على الدوام، إما من تجارة، أو صناعة، أو أجر عقار، أو غير ذلك، وإن كان له بعض الكفاية أخذ ما يتممها، وإن لم يكن له ذلك أخذ ما يكفيه‏.‏
وليكن ما يأخذه بقدر ما يكفى سنته ولا يزيد على ذلك ، وإنما اعتبر بالسنة، لأنها
إذا ذهبت جاء وقت الأخذ، وإذا أخذ الأكثر منها ضيق على الفقراء‏.‏
3ـ فصل في صدقة التطوع وفضلها وآدابها
أما فضائل الصدقة فهي كثيرة مشهورة‏:‏
منها‏:‏ ماروى البخاري من حديث ابن مسعود رضى الله عنه قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏"‏ أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله‏؟‏ قالوا ‏:‏ يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال‏:‏ فإن ماله ما قدم ، ومال وارثه ما أخر‏"‏‏.
وفى الصحيحين ‏"‏من رواية أبى هريرة رضى الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالمن تصدق بعدل (2) "‏ ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فلوه (3)‏(‏‏(‏أي المهر الصغير‏.‏ وقيل ‏:‏ الصغير من أولاد ذوات الحافر‏)‏‏)" "‏ حتى تكون مثل الجبل‏"‏‏.‏
وفى حديث آخر ‏:‏‏"‏ إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتقى ميتة السوء‏"‏‏.‏
وفى حديث آخر‏:‏ ‏"‏ تصدقوا فإن الصدقة فكاككم من النار‏"‏‏(4)
وعن بريدة رضى الله عنه قال ‏:‏ قال ‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏"‏ ما يخرج أحد شيئاً من الصدقة حتى يفك عنه لحى سبعين شيطاناً‏"‏‏.
وروى أن راهباً تعبد في صومعة ستين سنة، ثم نزل يوماً ومعه رغيف، فعرضت له امرأة فتكشفت له ، فوقع عليها، فأدركه الموت وهو على تلك الحال، وجاء سائل فأعطاه الرغيف ومات ، فجئ بعمل ستين سنة ، فوضع في كفة وخطيئته في كفة، فرجحت بعمله، حتى جئ بالرغيف فوضع مع عمله ، فرجح بخطيئته‏.‏
وفى أفراد مسلم، من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ‏:‏ ‏"‏ ما نقصت صدقة من مال ‏"‏‏.
وروى عن عائشة رضى الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبى صلى الله عليه وآلة وسلم ‏:‏ ‏"‏ ما بقى منها‏؟‏ فقالت : ما بقى منها إلا كتفها، فقال ‏:‏ ‏"‏ بقى كلها إلا كتفها‏"‏‏.‏
وأما آدابها ، فنحو ما تقدم في الزكاة‏.‏
واختلفوا‏:‏ أيما أفضل للفقير، أن يأخذ من الزكاة ، أو من الصدقة ‏.‏ فقال قوم‏:‏ من الزكاة أفضل ،وقال آخرون من الصدقة أفضل‏.‏
وأما أفضل الصدقة فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال‏:‏ ‏"‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أي الصدقة أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى ، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت‏:‏ لفلان كذا ، ولفلان كذا ، وقد كان لفلان‏"‏ أخرجاه في ‏"‏ الصحيحين‏"‏‏.‏
كتاب الصوم وأسراره ومهماته وما يتعلق به
أعلم‏:‏ أن في الصوم خصيصة ليست فى غيره، وهى إضافته إلى الله عز وجل حيث يقول سبحانه ‏(1): ‏"‏ الصوم لى وأنا أجزى به‏"‏، وكفى بهذه الإضافة شرفاً ، كما شرف البيت بإضافته إليه فى قوله ‏:‏ ‏{‏ وطهر بيتي ‏}‏ ‏[‏الحج ‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وإنما فضل الصوم لمعنيين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه سر وعمل باطن ، لا يراه الخلق ولا يدخله رياء‏.‏
الثاني‏:‏ أنه قهر لعدو الله، لأن وسيلة العدو الشهوات، وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب، وما دامت أرض الشهوات مخصبة، فالشياطين يترددون الى ذلك المرعى، وبترك الشهوات تضيق عليهم المسالك ‏.‏ وفى الصوم أخبار كثيرة تدل على فضله وهى مشهورة‏.‏
1ـ فصل فى سنن الصوم
يستحب السحور، وتأخيره، وتعجيل الفطر، وأن يفطر على التمر‏.‏
ويستحب الجود في رمضان، وفعل المعروف ، وكثرة الصدقة، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏.‏
ويستحب دراسة القرآن ، والاعتكاف فى رمضان ‏:‏ لا سيما فى العشر الأواخر، وزيادة الاجتهاد فيه‏.‏
وفى ‏"‏الصحيحين‏"‏ من حديث عائشة رضى الله عنها قالت ‏:‏ كان النبى صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل العشر ‏[‏يعنى الأخير‏]‏، شد مئزره، وأحيا الليل، وأيقظ أهله‏.‏ وذكر العلماء في معنى شد المئزر وجهين‏:‏
أحدهما ‏:‏ أنه الإعراض عن النساء‏.‏
الثاني‏:‏ أنه كناية عن الجد والتشمير فى العمل ‏.‏ قالوا ‏:‏ وكان سبب اجتهاده فى العشر طلب ليلة القدر‏.‏
2ـ بيان أسرار الصوم وآدابه
وللصوم ثلاث مراتب ‏:‏ صوم العموم‏.‏ وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص‏.‏
فأما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة‏.‏






Comments

Popular posts from this blog

IDENTIFICATION OF FUNGI

مجموعه محاضرات علم الطفيليات باللغه العربيه parasitology

عقار جديد يشفى من "فيروس سى" بدون أعراض جانبية.. وتداوله خلال عامين